غزة- الموت جوعًا جريمة حرب في الشريعة والقانون

المؤلف: د. عصام تليمة11.15.2025
غزة- الموت جوعًا جريمة حرب في الشريعة والقانون

تتوالى الأنباء المروّعة يومًا إثر يوم، حاملةً معها صورًا قاتمة جرّاء الحصار الجائر والمميت المفروض على أهل غزة الأبية، حيث تتزايد حالات الوفاة المأساوية نتيجة المجاعة، وسط صمت دولي فاضح وتقاعس مشين، بل والأدهى والأمرّ من ذلك، هو تواطؤ بعض الدول بإنشاء جسر بري لتمكين الكيان الصهيوني الغاصب، بينما يئنّ سكان غزة، من أطفال ونساء وشيوخ وعجائز، تحت وطأة الحصار الخانق والتجويع القاتل، ويا للأسف!

فالإنسان في غزة الصامدة يواجه مصيرًا جللًا، فإما أن يلقى حتفه قتلاً بأسلحة الاحتلال الغاشم ورصاصه الطائش، أو يُحرم من الدواء والعلاج إذا ما أُصيب أو جُرح، أو يموت جوعًا نتيجة منع الطعام والماء عنه، والجدير بالذكر أن العديد من حالات الوفاة المروعة بسبب التجويع لا تنجم عن فقر مدقع أو قلة حيلة، بل يمتلك هؤلاء المنكوبون المال اللازم لشراء ما يسدّ رمقهم ويروي عطشهم، ولكن الطعام والشراب يُمنعان عنهم عمدًا بهدف إماتتهم جوعًا وعطشًا، في مشهد يندى له الجبين.

هذه المعاناة المريرة دفعت بالكثيرين إلى التساؤل بقلق وأسى عن حكم هذا القتل البشع بالتجويع، وعن حكم من يعاون عليه أو يؤيد ما ترتكبه حكوماتهم تجاه هؤلاء المستضعفين المظلومين والمقهورين والمقتولين جوعًا، وعن حكم خذلانهم والتخلي عنهم، وهل يُعد هذا الخذلان مشاركة في هذه الجريمة النكراء أم لا؟

لقد أطلق العرب قديمًا على الموت جوعًا اسم "الموت الأغبر"، والموت ‌الأغبر: هو الموت جوعًا، لأنه يغبر في عينيه كل شيء، ويُفقده القدرة على الرؤية بوضوح.

تعوذ النبي من الجوع

إن نظرة الإسلام السمحة إلى الجوع هي نظرة رفض واستهجان، فكيف يمكن أن يكون الجوع عقوبة تُفرض على أناس أبرياء لا ذنب لهم؟ لقد كان النبي محمد- صلى الله عليه وسلم- دائمًا ما يتعوذ بالله من الجوع ويسأله العافية منه، فقد روى لنا الصحابة الكرام عنه أنه "كان يستعيذ بالله من سوء القضاء، وشماتة الأعداء، ودرك الشقاء، ‌وجهد ‌البلاء"، وقد فسر العلماء معنى تعوذه من (جهد البلاء) بأنه القتل صبرًا، فقال أنس- رضي الله عنه-: قتل الصبر جهد البلاء، وقال- صلّى الله عليه وسلم-: "جهد البلاء: أن تحتاج إلى ما في أيدي الناس فيمنعوك".

وكان- صلى الله عليه وسلم- يستجير بالله من الجوع، فيقول: "اللهم إني أعوذ بك من الجوع، فإنه بئس الضجيع"، وقد أطلق العرب قديمًا على الموت جوعًا اسم "الموت الأغبر"، والموت ‌الأغبر: هو الموت جوعًا، لأنه يغبر في عينيه كل شيء، ويُفقده القدرة على الرؤية بوضوح. وورد عنه- صلى الله عليه وسلم- النهي الصريح عن عقوبة الناس بالقتل صبرًا، أي: بمنع الطعام والشراب عنهم حتى يفارقوا الحياة جوعًا وعطشًا.

موقف الشريعة من المشاركة في القتل جوعًا

لقد تحدث القرآن الكريم بصراحة ووضوح عن جريمة القتل، سواء كانت موجهة ضد إنسان أو حيوان أو أي كائن حي، طالما كانت تشكل بغيًا في الأرض وظلمًا وعدوانًا، واعتبرها جريمة شنعاء، والشريعة الإسلامية الغراء تعتبر كل من يشارك في هذه الجريمة مجرمًا، ولو كان ذلك بمجرد التأييد أو الخذلان، إذا كان قادرًا على منع وقوع الجريمة،: فقد ذكر لنا القرآن الكريم في قصص الأمم السابقة قصة ناقة نبي الله صالح، ومن قاموا بقتلها، فعلى الرغم من أن الشخص الذي ارتكب الجريمة كان شخصًا واحدًا معروفًا ومحددًا، وأشار إليه القرآن الكريم بفعله، إلا أنه عند الحديث عن الجريمة لم يستثنِ أحدًا ممن كان قادرًا على منعها، فقال تعالى: (إذ انبعث أشقاها * فقال لهم رسول الله ناقة الله وسقياها * فكذبوه فعقروها فدمدم عليهم ربهم بذنبهم فسواها * ولا يخاف عقباها) الشمس: 12-14.

فالضمير هنا في التكذيب وذبح الناقة جاء بصيغة الجمع، على الرغم من أن من ذبحها هو شخص واحد، وقد وصفه القرآن بأنه (أشقاها)، ولكن عند الحديث عن الجريمة والعقوبة جاءت بصيغة الجمع، لأن هناك من حرّض على القتل، وهناك من قام بالذبح، وهناك من هلل وكبّر فرحًا بما فعله المجرم، وهناك من صمت صمتًا مشجعًا له على الإقدام على جريمته النكراء.

وقال- صلى الله عليه وسلم- عن حالة القتل بالتجويع، وعن شهود الفعل أو الصمت عنه تحديدًا: "إذا رأيتم الرجلَ ‌يُقْتَلُ ‌صَبْرًا ‌فلا ‌تحضروا مكانَه، فإنه لعله يقتلُ ظلمًا فينزل السُّخْط فيصيبكم".

وقال أيضًا عمن يقبل بالجريمة ولا ينكرها، حتى لو لم يكن أحد من حضروها أو شاهدوها، أو كانوا طرفًا في الفعل، فقال صلى الله عليه وسلم: "إذا عُمِلَتِ الخطيئةُ في الأرض، كان من شهدها وكرهها – وفي رواية – فأنكرها، كمن غاب عنها، ومن غاب عنها فرضِيها، كان ‌كمَن ‌شَهِدَهَا"، أي: إن الرضا بما يجري للناس من قتل وتجويع، أو التبرير أو القبول بهذا الفعل الشنيع، يُعد مثل القاتل في الإثم، فما بالنا بمن يعين ويساعد بشكل سافر وعلني؟

موقف الفقه الإسلامي من القتل بالتجويع

اعتبر الفقه الإسلامي، وبإجماع جمهرة الفقهاء، أن القتل بالتجويع هو أحد صور القتل العمد، إذا تعمد القائمُ بذلك فعلَه، وهو يعلم علم اليقين أن هذا الفعل سيؤول حتمًا إلى الموت، فنجد في كتب المذاهب الفقهية المختلفة، عند حديثها عن صور القتل، أو في كتب الفقه الجنائي الإسلامي المعاصرة، عند تقسيمها لأنواع القتل ما بين المباشر والقتل بالتسبب وغيره، يذكر منها: من حبس عن شخص الطعام أو الشراب عن عمد، مع وجودهما وإمكانية أن يتناولهما الممنوع عنه، لولا منع السلطة أو الإنسان له، فهو في نظرهم يُعد قاتلًا، والخلاف يدور بينهم حول ما إذا كان هذا القتل يُعد قتل عمد يوجب القصاص أم الدية؟، وذلك بحسب اختلافهم حول مدى معرفة ويقين القاتل بالتجويع من نجاعة فعله في إزهاق الروح.

فنجد الإمام النووي، وهو أحد أبرز علماء الفقه الشافعي، يقول في أحد أهم متون الفقه الشافعي: (لو حبسه/ ومنعه الطعام والشراب والطلب حتى مات، ‌فإن ‌مضت ‌مدة ‌يموت ‌مثله ‌فيها -غالبًا جوعًا أو عطشًا – فعمد، فإن لم يكن به جوع وعطش سابق فشبه عمد، وإن كان بعض جوع وعطش وعلم الحابس الحال فعمد).

ويقول الفقهاء كذلك عمن يقتل الناس بالتعرية في البرد القارس: (لو حبسه وعَرَّاهُ حتى مات بالبرد، فهو كما لو حبسه ومنعه الطعام والشراب).

ويقول الخطيب الشربيني، وهو أحد شرّاح متن النووي: (ولو حبسه ومنعه الطعام والشراب، أو أحدهما، ومنعه أيضًا الطلب لذلك حتى مات بسبب المنع، فإن مضت عليه مدة يموت مثله، أي: المحبوس فيها غالبًا، جوعًا أو عطشًا فعمد، لظهور قصد الإهلاك به. وتختلف المدة باختلاف حال المحبوس قوة وضعفًا، والزمان حَرًّا وبردًا، لأن فقد الماء في الحر ليس كفقده في البرد).

الماوردي يرسي قواعد منع القتل بالتجويع

أما الإمام الماوردي، الفقيه والقانوني والسياسي الكبير، وقاضي القضاة، فقد فصّل تفصيلاً وافيًا وكافيًا في حق الجائع والعطشان في أن ينال حقه كاملاً غير منقوص من الطعام والشراب، وتطرق إلى مسألة حساسة، وهي هل يحق له محاربة من منعه عن الطعام والشراب، وإلى أي مدى يمكنه ذلك؟ فقال في كتابه الشهير (الحاوي الكبير): (وإن لم يأذن له مالك الطعام في الأكل، فلم يخلُ المضطر من ثلاثة أحوال:

  • أحدها: أن يقدر على أخذ الطعام منه بغير قتال، فله أن يأخذ الطعام جبرًا، ولا يتعدى الآخذ إلى قتاله، وفي قدر ما يستبيح أخذه منه قولان: أحدهما: قدر ما يمسك به رمقه، والثاني: ما ينتهي به إلى حد الشبع، ويأكله في موضعه، ولا يحمله.
  • والحال الثانية: ألا يقدر على أخذه، ولا على قتاله عليه، فمالك الطعام عاصٍ بالمنع، ومعصيته إن أفضت إلى تلف المضطر أعظم.
  • والحال الثالثة: ألا يقدر المضطر على أخذه إلا بقتاله عليه، فله أن يقاتله عليه، وهل يجب عليه أن يقاتله حتى يصل إلى طعامه أم لا؟ على وجهين ممن أريدت نفسه هل يجب عليه المنع منها؟: أحدهما: يجب عليه أن يقاتله؛ ليصل إلى إحياء نفسه بطعامه، كما يجب عليه أكل الميتة لإحياء نفسه بها. والوجه الثاني: أن القتال مباح له، وليس بواجب عليه؛ لأن مالك الطعام لا ينفك في الأغلب من دين أو عقل يبعثه كل واحد منهما على إحياء المضطر بماله، فجاز أن يكون موكولًا إليه، وخالف أكل الميتة في الوجوب؛ لأنه لا سبيل إلى إحياء نفسه إلا بها، فإذا شرع في قتاله توصل بالقتال إلى أخذ ما يتعلق به الإباحة من طعامه.
  • وفيه ما قدمناه من القولين: أحدهما: يقاتله إلى أن يصل إلى أخذ ما يمسك الرمق، فإن قاتله بعد الوصول إلى إمساك الرمق كان متعديًا، والقول الثاني: يقاتله إلى أن يصل إلى قدر الشبع، ويكون القتال بعد الوصول إلى إمساك الرمق مباحًا، وليس بواجب وجهًا واحدًا، وقتاله بعد الوصول إلى قدر الشبع عدوان).

ثم تحدث الماوردي بإسهاب عن حالة ما إذا حارب الجائع من جوّعه وكان المسكين مسلمًا، فأدى ذلك إلى هلاك أحدهما، فما هو الحكم الشرعي في هذه الحالة؟ فقال: (فإن لم يصل بالقتال إلى شيء من طعامه حتى تلف أحدهما، نظر، فإن كان التالف رب الطعام كانت نفسه هدرًا لا تضمن بِقَوَد ولا دية؛ لأنه مقتول بحق، كمن طلب نفس إنسان، فقتله المطلوب دفعًا كانت نفسه هدرًا، وإن كان التالف المضطر كانت نفسه مضمونة على ربّ الطعام؛ لأنه قتل مظلومًا، ثم نظر فإن علم رب الطعام بضرورة المضطر ضمنه بالقَوَد، وإن لم يعلم بضرورته ضمنه بالدية؛ لأنه مع العلم بها عامد، ومع الجهل بها خاطئ).

والأجدر بمن يفرض إطعام من يراد قتله وتجويعه هنا هو القانون والمجتمع الدولي بمواثيقه وقوانينه التي تُفرض على كل من يفرض حصارًا ظالمًا على شعب أعزل، والجدير بالذكر أن حديث الفقهاء قديمًا كان يدور حول حالات أفراد معدمين لا تصل إليهم سلطة السلطان أو الحكم، ولكن الفقهاء الأجلاء أعلوا من شأن الجانب الإغاثي والحقوقي في ذلك الوقت، بما يحفظ حياة الناس ويصون كرامتهم.

والأصل الثابت عند الفقهاء في موقفهم من هذه المسألة الحساسة هو أن حبس الآدميين عن الطعام والشراب يُعتبر قتل عمدٍ يستوجب القصاص العادل منهم عن طريق القانون، وذلك لما ثبت في الصحيح المأثور أن النبي- صلى الله عليه وسلم- قال: "دخلت امرأة النار في هرة حبستها؛ لا هي أطعمتها ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض"، فدل ذلك دلالة قاطعة على أن هذا يُعتبر ضربًا من ضروب القتل، وأنه عندما تُمنع النفس من طعامها وشرابها حتى تمضي المدة المؤثرة فإن هذا يُعتبر إزهاقًا للروح، وقتل عمدٍ يوجب العقوبة الصارمة في الدنيا والآخرة.

تلك هي نظرة الشريعة الإسلامية السمحاء والفقهاء الأجلاء إلى من يقتل الناس بالتجويع، وما بين هذا الموقف الشرعي الواضح الجليّ، والواقع السياسي المرير الذي يعيشه الناس دون أن يحركوا ساكنًا لمنع هذه الإبادة الجماعية البشعة التي تُرتكب ضد شعب أعزل، ما بين القتل المباشر والقتل بالتجويع، نجد أن نظرة الفقهاء القدامى أكثر تقدمًا وإنسانية من نظرة مدّعي التنوير والحرية وحقوق الإنسان المعاصرين.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة